من بين الكتب التي قرأتها في هذه العطلة الصيفية ،والتي استمتعت فعلا بقراءتها ، كتاب "Apprendre à vivre" لصاحبهLuc Ferry. وهو فيلسوف فرنسي من مواليد 1951، شكل مع Alain Renaut وAlain Touraine جيلا جديدا من الفلاسفة الذين يدافعون عن الحداثة ، ليس بصورتها الأنوارية المباشرة، ولكن من خلال قراءة جديدة للمتن الفلسفي ، كما نرى ذلك في كتاب "كانط اليوم" لرونو ، و"نقد الحداثة لتورين.
أما فيما يتعلق بكتاب "تعلم كيف تعيش" ،فهو عبارة عن سرد لأهم لحظات تاريخ الفلسفة، بأسلوب بسيط وواضح يغلب عليه طابع الأسلوب الشفهي، دون تشويه للمضامين الفلسفية .
ويسعدني أن أتقاسم معكم هذه المتعة من خلال الفصل الخامس من الكتاب والمعون ب " مابعد الحداثة - حالة نيتشه. سأعرضه في حلقات.
جرت العادة، في الفلسفة المعاصرة، على إطلاق "مابعد الحداثة" على الأفكار التي بدأت انطلاقا من منتصف القرن التاسع عشرتنتقد النزعة الإنسانية الحديثة ، وخاصة فلسفة الأنوار. وبما أن هذه الفلسفة قد قطعت الصلة مع الكسمولوجيات الكبرى للعصر القديم، وفتحت الباب أمام نقد الدين، فإن "مابعد الحداثيين" سيهاجمون القناعتين القويتين اللتين كانتا تحركان الحداثيين منذ القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر: الأولى وهي مركزية الكائن البشري في العالم ، مبدأ كل القيم الأخلاقية والسياسية؛ والثانية وهي التي تجعل من العقل قوة هائلة للتحرر من كل وصاية ، وأن الإنسان سيكون بفضل تقدم التنوير أكثر تحررا وسعادة.
ستعارض فلسفة مابعد الحداثة هاتين المسلمتين، وبذلك ستكون ، في نفس الآن، نقدا للنزعة الإنسانية وللعقلانية. ومما لا ريب فيه، أن هذا النقد سيصل مع نيتشه إلى الذروة، مع العلم أن هناك بعض الاعتراضات المحتملة ، على التطرف إن لم يكن العنف في تهجماته على العقلانية والنزعة الإنسانية ، ومهما كانت قيمة هذه الاعتراضات فهي لا تضاهي العبقرية التي عرف كيف يوجه بها انتقداته.
لكن، وبعد كل هذا، لماذا الحاجة للتقويض ، تقويض هذا البناء الذي تعبت الإنسانية في تشييده على حد قول هيدجر؟ لماذا الانتقال من نظرة للعالم إلى أخرى ؟ ما هي الأسباب التى كشفت عن أن "التنوير" صار غير كاف أو مجرد وهم؟ وكذا الأسباب التي ستدفع الفلسفة من جديد إلى الرغبة في "الذهاب إلى ماهو أبعد"؟
إذا أردنا أن نتمسك بما هو أساسي ، لربما بدا الجواب مختصرا. لقد طردت الفلسفة الحديثة فكرة الكسموس، وانتقدت السلطات الدينية لتستبدل بهما العقل والحرية ، ونموذج الديموقراطية، وأنسنة القيم الأخلاقية المبنية على إنسانية الإنسان، وعلى ما يجعله مختلفا نوعيا عن كل المخلوقات الحيوانية. لقد انبنى هذا الصرح على قاعدة الشك الذي ظهر في مؤلفات ديكارت، أي على الفكر النقدي، وحرية التفكير الذي ذهب إلى حد "مسح الطاولة" لكل الموروث عن الماضي، ولكل التقاليد. كذلك انطلق العلم في هذا المسارمستلهما نفس المبدأ، إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يوقفه في أبحاثه عن الحقيقة. هذا ما لم يضعه الحداثيون في الحسبان ، فهم كمن أطلق عفريتا من قمقمه وسوف لا يستطيع أحد التحكم فيه ؛ كذلك فعل ديكارت والأنواريون ، أطلقوا العنان للفكر النقدي ولا شيء يقدر على إيقافه ؛ كحامض الأسيد الذي يستمر في نخر المواد التي يلامسها حتى وإن صب الماء عليه لمحاولة حصره . سيؤدي العقل والمثل الإنسانية ثمن النقد إلى حد أن العالم الفكري المشيد بهما سيكون ضحية نفس المبادئ التي يرتكزعليها .
لندقق في المسألة بعض الشيء.
قوض العلم الحديث الذي هو ثمرة الفكر النقدي والشك المنهجي الكسمولوجيات ، وأضعف بشكل كبير، على الأقل في مرحلته الأولى ، دعائم السلطة الدينية . هذا واقع لا مراء فيه. في حين أن النزعة الإنسانية لم تتمكن من الإجهاز على أساس البنية الدينية ، هذا الأساس الذي يتمثل في التعارض بين العالم العلوي والسفلي ، بين الجنة والواقع الأرضي ، أو لنقل بين المثال والواقع . لهذا يبقى ورثة الأنواريين ، في نظر نيتشه، متدينين حتى ولو ادعوا الإلحاد أو المادية ، ليس بالمعنى الذي يجعلهم يؤدون الصلوات للرب، ولكن بالمعني الذي يحيل على أنهم يجلون على الأقل أساطير جديدة، مادام أنهم يعتقدون في تعالي بعض القيم عن الحياة ، وأن الواقع ينبغي أن يحاكم باسم المثال ، وأن يغير ليتطابق مع المثل العليا : حقوق الإنسان ، والعلم ، والعقل ، والديموقراطية ، والاشتراكية ، وتكافؤ الفرص إلخ...
هذه النظرة إلى الأشياء تبقى في أساسها وريثة اللاهوت ، خصوصا عندما لا تعي بذلك ، وتريد لنفسها أن تكون ثورية ولادينية ! وخلاصة القول ، تظل النزعة الإنسانية للأنواريين ، في نظر مابعد الحداثيين، وبالأخص في نظر نيتشه ، سجينة البنيات الأساسية للدين التي تقودها ، دون أن تفطن بذلك، حتى في اللحظة التي تدعي فيها تجاوز تلك البنيات . لهذا اقتضى الأمر إخضاعها بدورها لنفس النقد الذي كانت قد مارسته ضد الآخرين من المدافعين عن الكوسمولوجيات القديمة والأفكار الدينية.
في مقدمة كتاب " هذا هو الإنسان" ، وهو عند نيتشه، من الكتب النادرة الذي اتخذ صورة اعترافات، يحدد فيها موقفه الفلسفي بعبارات تسجل بوضوح القطيعة التي أحدثها مع النزعة الإنسانية الحديثة. هذه النزعة التي لم تتوقف عن تأكيد إيمانها بالتقدم، وقناعتها بأن نشر العلم والتكنولوجيا سيجلبان الأيام السعيدة، وأن التاريخ والسياسة ينبغي أن يقادا بمثال أو إيطوبيا تسمح بجعل الإنسانية أكثر احتراما لنفسها. ها هو نوع من الاعتقاد والتدين بدون إله، أو كما يقول نيتشه بلغته الخاصة، ها هي نوع من "الأوثان" التي ينبغي تحطيمها بمطرقة التفلسف. لنستمع إليه يقول: : " إن آخر ما يمكن أن يخطر لي أن أعد به هو "إصلاح" البشرية. كما أنني لن أشيد أصناما جديدة؛ وليعلم القدامى ما الذي يجلبه الانتصاب على قدمين من صلصال. تحطيم الأصنام ( وهذه كلمتي المفضلة للتعبير عن المثل) هي حرفتي، ذلك أنه بمجرد أن ابتُدِعت أكذوبة عالم المثل قد تم تجريد الواقع من قيمته ومن معناه ومن حقيقيته ... "العالم الحقيقي " و " العالم الظاهر" – أو بعبارة أكثر وضوحا: العالم المبتدَع والعالم الواقعي ... إن أكذوبة المثل ظلت إلى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع، وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوهة ومزيفة حتى في غرائزها الأكثر عمقا – تزييف بلغ حد تقديس القيم المعكوسة المتناقضة لتلك التي كان بإمكانها أن تضمن النمو والمستقبل، والحق المقدس في المستقبل ".
إذن ، لم يعد الأمر قطعا يتعلق بإعادة بناء عالم إنساني ، "مملكة الغايات" حيث يتساوى الناس أخيرا في الكرامة، كما أراد ذلك كانط . أما الديموقراطية في نظر مابعد الحداثيين ، وكيفما كان المضمون الذي يمنح لها،فهي ليست سوى وهم جديد من بين أوهام أخرى، إن لم يكن أسوأها ما دام أنها غالبا ما تتخفى وراء مظاهر قطيعة مع العالم المتدين بادعائها "لائكية" ...
(يتبع)
أما فيما يتعلق بكتاب "تعلم كيف تعيش" ،فهو عبارة عن سرد لأهم لحظات تاريخ الفلسفة، بأسلوب بسيط وواضح يغلب عليه طابع الأسلوب الشفهي، دون تشويه للمضامين الفلسفية .
ويسعدني أن أتقاسم معكم هذه المتعة من خلال الفصل الخامس من الكتاب والمعون ب " مابعد الحداثة - حالة نيتشه. سأعرضه في حلقات.
جرت العادة، في الفلسفة المعاصرة، على إطلاق "مابعد الحداثة" على الأفكار التي بدأت انطلاقا من منتصف القرن التاسع عشرتنتقد النزعة الإنسانية الحديثة ، وخاصة فلسفة الأنوار. وبما أن هذه الفلسفة قد قطعت الصلة مع الكسمولوجيات الكبرى للعصر القديم، وفتحت الباب أمام نقد الدين، فإن "مابعد الحداثيين" سيهاجمون القناعتين القويتين اللتين كانتا تحركان الحداثيين منذ القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر: الأولى وهي مركزية الكائن البشري في العالم ، مبدأ كل القيم الأخلاقية والسياسية؛ والثانية وهي التي تجعل من العقل قوة هائلة للتحرر من كل وصاية ، وأن الإنسان سيكون بفضل تقدم التنوير أكثر تحررا وسعادة.
ستعارض فلسفة مابعد الحداثة هاتين المسلمتين، وبذلك ستكون ، في نفس الآن، نقدا للنزعة الإنسانية وللعقلانية. ومما لا ريب فيه، أن هذا النقد سيصل مع نيتشه إلى الذروة، مع العلم أن هناك بعض الاعتراضات المحتملة ، على التطرف إن لم يكن العنف في تهجماته على العقلانية والنزعة الإنسانية ، ومهما كانت قيمة هذه الاعتراضات فهي لا تضاهي العبقرية التي عرف كيف يوجه بها انتقداته.
لكن، وبعد كل هذا، لماذا الحاجة للتقويض ، تقويض هذا البناء الذي تعبت الإنسانية في تشييده على حد قول هيدجر؟ لماذا الانتقال من نظرة للعالم إلى أخرى ؟ ما هي الأسباب التى كشفت عن أن "التنوير" صار غير كاف أو مجرد وهم؟ وكذا الأسباب التي ستدفع الفلسفة من جديد إلى الرغبة في "الذهاب إلى ماهو أبعد"؟
إذا أردنا أن نتمسك بما هو أساسي ، لربما بدا الجواب مختصرا. لقد طردت الفلسفة الحديثة فكرة الكسموس، وانتقدت السلطات الدينية لتستبدل بهما العقل والحرية ، ونموذج الديموقراطية، وأنسنة القيم الأخلاقية المبنية على إنسانية الإنسان، وعلى ما يجعله مختلفا نوعيا عن كل المخلوقات الحيوانية. لقد انبنى هذا الصرح على قاعدة الشك الذي ظهر في مؤلفات ديكارت، أي على الفكر النقدي، وحرية التفكير الذي ذهب إلى حد "مسح الطاولة" لكل الموروث عن الماضي، ولكل التقاليد. كذلك انطلق العلم في هذا المسارمستلهما نفس المبدأ، إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يوقفه في أبحاثه عن الحقيقة. هذا ما لم يضعه الحداثيون في الحسبان ، فهم كمن أطلق عفريتا من قمقمه وسوف لا يستطيع أحد التحكم فيه ؛ كذلك فعل ديكارت والأنواريون ، أطلقوا العنان للفكر النقدي ولا شيء يقدر على إيقافه ؛ كحامض الأسيد الذي يستمر في نخر المواد التي يلامسها حتى وإن صب الماء عليه لمحاولة حصره . سيؤدي العقل والمثل الإنسانية ثمن النقد إلى حد أن العالم الفكري المشيد بهما سيكون ضحية نفس المبادئ التي يرتكزعليها .
لندقق في المسألة بعض الشيء.
قوض العلم الحديث الذي هو ثمرة الفكر النقدي والشك المنهجي الكسمولوجيات ، وأضعف بشكل كبير، على الأقل في مرحلته الأولى ، دعائم السلطة الدينية . هذا واقع لا مراء فيه. في حين أن النزعة الإنسانية لم تتمكن من الإجهاز على أساس البنية الدينية ، هذا الأساس الذي يتمثل في التعارض بين العالم العلوي والسفلي ، بين الجنة والواقع الأرضي ، أو لنقل بين المثال والواقع . لهذا يبقى ورثة الأنواريين ، في نظر نيتشه، متدينين حتى ولو ادعوا الإلحاد أو المادية ، ليس بالمعنى الذي يجعلهم يؤدون الصلوات للرب، ولكن بالمعني الذي يحيل على أنهم يجلون على الأقل أساطير جديدة، مادام أنهم يعتقدون في تعالي بعض القيم عن الحياة ، وأن الواقع ينبغي أن يحاكم باسم المثال ، وأن يغير ليتطابق مع المثل العليا : حقوق الإنسان ، والعلم ، والعقل ، والديموقراطية ، والاشتراكية ، وتكافؤ الفرص إلخ...
هذه النظرة إلى الأشياء تبقى في أساسها وريثة اللاهوت ، خصوصا عندما لا تعي بذلك ، وتريد لنفسها أن تكون ثورية ولادينية ! وخلاصة القول ، تظل النزعة الإنسانية للأنواريين ، في نظر مابعد الحداثيين، وبالأخص في نظر نيتشه ، سجينة البنيات الأساسية للدين التي تقودها ، دون أن تفطن بذلك، حتى في اللحظة التي تدعي فيها تجاوز تلك البنيات . لهذا اقتضى الأمر إخضاعها بدورها لنفس النقد الذي كانت قد مارسته ضد الآخرين من المدافعين عن الكوسمولوجيات القديمة والأفكار الدينية.
في مقدمة كتاب " هذا هو الإنسان" ، وهو عند نيتشه، من الكتب النادرة الذي اتخذ صورة اعترافات، يحدد فيها موقفه الفلسفي بعبارات تسجل بوضوح القطيعة التي أحدثها مع النزعة الإنسانية الحديثة. هذه النزعة التي لم تتوقف عن تأكيد إيمانها بالتقدم، وقناعتها بأن نشر العلم والتكنولوجيا سيجلبان الأيام السعيدة، وأن التاريخ والسياسة ينبغي أن يقادا بمثال أو إيطوبيا تسمح بجعل الإنسانية أكثر احتراما لنفسها. ها هو نوع من الاعتقاد والتدين بدون إله، أو كما يقول نيتشه بلغته الخاصة، ها هي نوع من "الأوثان" التي ينبغي تحطيمها بمطرقة التفلسف. لنستمع إليه يقول: : " إن آخر ما يمكن أن يخطر لي أن أعد به هو "إصلاح" البشرية. كما أنني لن أشيد أصناما جديدة؛ وليعلم القدامى ما الذي يجلبه الانتصاب على قدمين من صلصال. تحطيم الأصنام ( وهذه كلمتي المفضلة للتعبير عن المثل) هي حرفتي، ذلك أنه بمجرد أن ابتُدِعت أكذوبة عالم المثل قد تم تجريد الواقع من قيمته ومن معناه ومن حقيقيته ... "العالم الحقيقي " و " العالم الظاهر" – أو بعبارة أكثر وضوحا: العالم المبتدَع والعالم الواقعي ... إن أكذوبة المثل ظلت إلى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع، وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوهة ومزيفة حتى في غرائزها الأكثر عمقا – تزييف بلغ حد تقديس القيم المعكوسة المتناقضة لتلك التي كان بإمكانها أن تضمن النمو والمستقبل، والحق المقدس في المستقبل ".
إذن ، لم يعد الأمر قطعا يتعلق بإعادة بناء عالم إنساني ، "مملكة الغايات" حيث يتساوى الناس أخيرا في الكرامة، كما أراد ذلك كانط . أما الديموقراطية في نظر مابعد الحداثيين ، وكيفما كان المضمون الذي يمنح لها،فهي ليست سوى وهم جديد من بين أوهام أخرى، إن لم يكن أسوأها ما دام أنها غالبا ما تتخفى وراء مظاهر قطيعة مع العالم المتدين بادعائها "لائكية" ...
(يتبع)