السلام عليكم : في أصالة علم الكلام عند المسلمين :
قد يتبادر لذهن الدارس لمؤلفات بعض علماء الكلام في الإسلام , تساؤل حول أصالة هذا العلم ( Théologie Dialectique), و خاصة بعدما يلاحظ موقف رد الفعل و الذي اتخذه العديد من العلماء وهم يحاولون الدفاع على عقائدهم الإيمانية بالحجج العقلية ضد المخالفين لهم , و كذلك عندما يطلع على رأي بعض الباحثين من أمثال دي بور و المستشرق جولد زيهر و غيرهم في من يعتقد أن هذا العلم ظهر كمحاولة لإيجاد نسق مذهبي متجانس يسد الثغرات ويستبعد المتناقضات بين آيات القرآن الكريم . و إن كنا لا ننكر أثر العوامل الخارجية في نشأة علم الكلام وتطوره – ومنها المناقشات التي دارت بين أرباب الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية والفارسية و أثر الفلسفة اليونانية والكتب المترجمة – و لكن هذا لا يعني أن علم الكلام ما هو إلا صناعة دخيلة و خارجية .
ولنبين حقيقة الموضوع سنتحدث عن أصالة علم الكلام من ناحية الموضوع والمنهج:
أ / من ناحية الموضوع :
لم يكتف علماء الكلام بالموقف الدفاعي و الذي أوجدته الحاجة الاجتماعية بل أضافوا جملة من الحقائق و التي استمدوها من تأثيرات دينهم و من بينها نجد :
1/ أدلتهم على وجود الله تعالى : بما أن أصل الإيمان يقوم على الإقرار بوجود الله تعالى , فقد عمد المتكلمون إلى وضع أدلة تثبت وجوده ومنها الدليل الكوني أو الكسمولوجي القائم على مبدأ العلية فمادام أن أجسام العالم مُحدثَة وأن كل مُحْدَث فله مُحْدِث . و لأن كل مُحدَث ممكن الوجود وممكن الوجود يحتاج في وجوده إلى مؤثر خارجي مختلف عليه و هو واجب الوجود بذاته وهو الله وبالتالي فالله موجود .أي من خلال معرفتنا بالمخلوقات العاجزة عن خلق ذاتها ندرك أن صانعها أعلم وأقدر منها , و قد استند المتكلمون إلى قصة سيدنا الخليل عليه السلام في سورة الأنعام , آية (76 ) بعد بسم الله الرحمن الرحيم :" فَلَمَا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلينَ " صدق الله العظيم .و الأفول عندهم يعني الحركة وبالتالي فكل متحرك مُحْدَث والمُحْدَثُ لا يصلح أن يكون ربًا .
2/ كلامهم في ذات الله وصفاته : رغبة من علماء الكلام في الاختلاف والتميز عن غيرهم - من أمثال اليهود الداعين إلى التشبيه والتجسيم – فقد أرجعوا صفات الله تعالى إلى صفتين وهما : العلم و القدرة أو الحياة .
3/ خلق العالَم : قالوا أن العلم مُركب من جواهر فردة وأعراض و أن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض , وأن الأعراض حادثة , و أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث , إذن : العلم حادث لتكونه من الأعراض و الجواهر , كما أن العالم مُحدَث عن إرادة الله القديمة و في هذا محاولة منهم للتوفيق بين رأيهم و رأي بعض الفلاسفة الذين يقرون بقدم العالم .
4/ تصوراتهم للإنسان :دافع علماء الكلام على مكانة الإنسان باعتباره خليفة الله في أرضه وأثبتوا له مقومات تتيح له القيام بهذه المسؤولية على أكمل وجه كلا على حسب فهمه , فمن الفرق من أثبتت له الحرية كالمعتزلة ومنها من نفاها عنه كالجبرية لأن ذلك في رأيها يحقق له العبودية التامة لله .
ب / من حيث المنهج : عندما استخدمت الفرق المعارضة سلاح العلم والمنطق ضد المسلمين هب لفيف من العلماء للدفاع مستخدمين السلاح ذاته بعدما حققوا الدراسة المتعمقة لمؤلفات الخصوم و منطلقاتهم حتى يكون نقدهم مؤسس بشكل علمي وموضوعي ولا نقصد هنا المنطق الأرسطي فحسب وإنما المنطق الفطري والذي يتحلى به كل عقل سليم لا يستسيغ النتائج حتى تبنى على مقدمات منطقية واضحة وصادقة بذاتها , و من خلال مواضيعهم يمكننا استخراج مناهجهم و منها قياس الغائب على الشاهد وقد استخدموه في الإلهيات مثل الاستدلال على وجود الخالق بعد معرفة المخلوقات .
و إن كان بعض الباحثين يرى أن علم الكلام لم يأخذ طابعه المنهجي إلا بعد مرحلة لاحقة , و خاصة في العصر العباسي في عهد المأمون , و لكنهم كما تعلموا من غيرهم فقد تعلموا من دينهم , يقول المؤرخ ويلز." اقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية و قوانين اجتماعية, فهو كتاب دين و علم و اجتماع وخلق وتاريخ.."
وعلى كل حال فإن ظهور هذا العلم في العصر الإسلامي يبرر أصالته , حيث يرى الدكتور التونسي " عبد العزيز الدولاتي في كتابه المستشرقون ج2 أن أي علم ظهر في بلاد الإسلام فإن ذلك ينسب إلى المسلمين لأنهم لم يكونوا ليسمحوا بظهور أمور تخالفهم في أراضي حكمهم .
كما امتلك العرب كل المقومات التي تسمح لهم بإنشاء فكر ومذاهب خاصة بهم ويتجلى هذا في طابع شخصيتهم الصحراوية والتي تمتلك رصيد من سعة الأفق و القدرة على تمييز الصحيح و كانت حياتهم في البادية تفرض عليهم أساليب من الحياة كالصبر والتحمل والاعتماد على الذات .
و لكن بعض رجال الدين وقفوا حيال علماء الكلام موقف المعارض لمواضيعهم ولكثير من نتائجهم ومن بينهم نجد ابن تيمية السلفي الذي رأى أن طرقهم في الاستدلال طويلة , كما أن بعضهم طلب الفلسفة ليدافع عن الدين ثم لم يلبث حتى طلبها لذاتها وهناك من أراد فرض رأيه بقوة الدولة والسياسة لغرض في نفسه مثلما فعلت المعتزلة أيام محنة قولهم بخلق القرآن. كما أنهم نفوا و عطلوا الصفات الإلهية خشية الوقوع في التجسيم .
وبالرغم من هذا النقد أو غيره لا يمكننا أن نحجب عنهم شرف المحاولة فلو لم يظهر علم الكلام عندنا ربما لم تظهر الفلسفة الإسلامية و ربما حتى الوسيطية والحديثة و الغربية المعاصرة .
وفي الختام نقول أن علم الكلام علم أصيل موضوعا ومنهجا جذوره مستمدة من القرآن الكريم ومن أسالبيه الدفاعية ومن مناقشات الصحابة حول المعاني الصعبة و بتحفيز من الدين وبوجود بعض الآيات المتشابهات التي تشجع على استعمال العقل وعدم الوقوف عند حرفية النص .و لا يزال دور علم الكلام قائما وذلك بمنهج المناظرات التي لا تزال مستمرة مادام هناك من يشكك في الدين و كمثال على ذلك مناقشة الشيخ ابن خليل الهندي للقسيس بفندر في مدينة أغرة الهندية حتى اعترف بفندر بوجود التحريف في الإنجيل .
وللإطلاع أكثر يرجى قراءة مؤلفات أحمد ابن تيمية مثل: الرسالة التدمرية و كتاب : مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار / و كذلك كتاب: أصالة علم الكلام لمحمد صالح محمد السيد ,و هذا الأخير على الرابط : www.4shared.com/file/78266675/b495d086/
و شكرا .
قد يتبادر لذهن الدارس لمؤلفات بعض علماء الكلام في الإسلام , تساؤل حول أصالة هذا العلم ( Théologie Dialectique), و خاصة بعدما يلاحظ موقف رد الفعل و الذي اتخذه العديد من العلماء وهم يحاولون الدفاع على عقائدهم الإيمانية بالحجج العقلية ضد المخالفين لهم , و كذلك عندما يطلع على رأي بعض الباحثين من أمثال دي بور و المستشرق جولد زيهر و غيرهم في من يعتقد أن هذا العلم ظهر كمحاولة لإيجاد نسق مذهبي متجانس يسد الثغرات ويستبعد المتناقضات بين آيات القرآن الكريم . و إن كنا لا ننكر أثر العوامل الخارجية في نشأة علم الكلام وتطوره – ومنها المناقشات التي دارت بين أرباب الديانات الأخرى كاليهودية والمسيحية والفارسية و أثر الفلسفة اليونانية والكتب المترجمة – و لكن هذا لا يعني أن علم الكلام ما هو إلا صناعة دخيلة و خارجية .
ولنبين حقيقة الموضوع سنتحدث عن أصالة علم الكلام من ناحية الموضوع والمنهج:
أ / من ناحية الموضوع :
لم يكتف علماء الكلام بالموقف الدفاعي و الذي أوجدته الحاجة الاجتماعية بل أضافوا جملة من الحقائق و التي استمدوها من تأثيرات دينهم و من بينها نجد :
1/ أدلتهم على وجود الله تعالى : بما أن أصل الإيمان يقوم على الإقرار بوجود الله تعالى , فقد عمد المتكلمون إلى وضع أدلة تثبت وجوده ومنها الدليل الكوني أو الكسمولوجي القائم على مبدأ العلية فمادام أن أجسام العالم مُحدثَة وأن كل مُحْدَث فله مُحْدِث . و لأن كل مُحدَث ممكن الوجود وممكن الوجود يحتاج في وجوده إلى مؤثر خارجي مختلف عليه و هو واجب الوجود بذاته وهو الله وبالتالي فالله موجود .أي من خلال معرفتنا بالمخلوقات العاجزة عن خلق ذاتها ندرك أن صانعها أعلم وأقدر منها , و قد استند المتكلمون إلى قصة سيدنا الخليل عليه السلام في سورة الأنعام , آية (76 ) بعد بسم الله الرحمن الرحيم :" فَلَمَا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلينَ " صدق الله العظيم .و الأفول عندهم يعني الحركة وبالتالي فكل متحرك مُحْدَث والمُحْدَثُ لا يصلح أن يكون ربًا .
2/ كلامهم في ذات الله وصفاته : رغبة من علماء الكلام في الاختلاف والتميز عن غيرهم - من أمثال اليهود الداعين إلى التشبيه والتجسيم – فقد أرجعوا صفات الله تعالى إلى صفتين وهما : العلم و القدرة أو الحياة .
3/ خلق العالَم : قالوا أن العلم مُركب من جواهر فردة وأعراض و أن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض , وأن الأعراض حادثة , و أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث , إذن : العلم حادث لتكونه من الأعراض و الجواهر , كما أن العالم مُحدَث عن إرادة الله القديمة و في هذا محاولة منهم للتوفيق بين رأيهم و رأي بعض الفلاسفة الذين يقرون بقدم العالم .
4/ تصوراتهم للإنسان :دافع علماء الكلام على مكانة الإنسان باعتباره خليفة الله في أرضه وأثبتوا له مقومات تتيح له القيام بهذه المسؤولية على أكمل وجه كلا على حسب فهمه , فمن الفرق من أثبتت له الحرية كالمعتزلة ومنها من نفاها عنه كالجبرية لأن ذلك في رأيها يحقق له العبودية التامة لله .
ب / من حيث المنهج : عندما استخدمت الفرق المعارضة سلاح العلم والمنطق ضد المسلمين هب لفيف من العلماء للدفاع مستخدمين السلاح ذاته بعدما حققوا الدراسة المتعمقة لمؤلفات الخصوم و منطلقاتهم حتى يكون نقدهم مؤسس بشكل علمي وموضوعي ولا نقصد هنا المنطق الأرسطي فحسب وإنما المنطق الفطري والذي يتحلى به كل عقل سليم لا يستسيغ النتائج حتى تبنى على مقدمات منطقية واضحة وصادقة بذاتها , و من خلال مواضيعهم يمكننا استخراج مناهجهم و منها قياس الغائب على الشاهد وقد استخدموه في الإلهيات مثل الاستدلال على وجود الخالق بعد معرفة المخلوقات .
و إن كان بعض الباحثين يرى أن علم الكلام لم يأخذ طابعه المنهجي إلا بعد مرحلة لاحقة , و خاصة في العصر العباسي في عهد المأمون , و لكنهم كما تعلموا من غيرهم فقد تعلموا من دينهم , يقول المؤرخ ويلز." اقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية و قوانين اجتماعية, فهو كتاب دين و علم و اجتماع وخلق وتاريخ.."
وعلى كل حال فإن ظهور هذا العلم في العصر الإسلامي يبرر أصالته , حيث يرى الدكتور التونسي " عبد العزيز الدولاتي في كتابه المستشرقون ج2 أن أي علم ظهر في بلاد الإسلام فإن ذلك ينسب إلى المسلمين لأنهم لم يكونوا ليسمحوا بظهور أمور تخالفهم في أراضي حكمهم .
كما امتلك العرب كل المقومات التي تسمح لهم بإنشاء فكر ومذاهب خاصة بهم ويتجلى هذا في طابع شخصيتهم الصحراوية والتي تمتلك رصيد من سعة الأفق و القدرة على تمييز الصحيح و كانت حياتهم في البادية تفرض عليهم أساليب من الحياة كالصبر والتحمل والاعتماد على الذات .
و لكن بعض رجال الدين وقفوا حيال علماء الكلام موقف المعارض لمواضيعهم ولكثير من نتائجهم ومن بينهم نجد ابن تيمية السلفي الذي رأى أن طرقهم في الاستدلال طويلة , كما أن بعضهم طلب الفلسفة ليدافع عن الدين ثم لم يلبث حتى طلبها لذاتها وهناك من أراد فرض رأيه بقوة الدولة والسياسة لغرض في نفسه مثلما فعلت المعتزلة أيام محنة قولهم بخلق القرآن. كما أنهم نفوا و عطلوا الصفات الإلهية خشية الوقوع في التجسيم .
وبالرغم من هذا النقد أو غيره لا يمكننا أن نحجب عنهم شرف المحاولة فلو لم يظهر علم الكلام عندنا ربما لم تظهر الفلسفة الإسلامية و ربما حتى الوسيطية والحديثة و الغربية المعاصرة .
وفي الختام نقول أن علم الكلام علم أصيل موضوعا ومنهجا جذوره مستمدة من القرآن الكريم ومن أسالبيه الدفاعية ومن مناقشات الصحابة حول المعاني الصعبة و بتحفيز من الدين وبوجود بعض الآيات المتشابهات التي تشجع على استعمال العقل وعدم الوقوف عند حرفية النص .و لا يزال دور علم الكلام قائما وذلك بمنهج المناظرات التي لا تزال مستمرة مادام هناك من يشكك في الدين و كمثال على ذلك مناقشة الشيخ ابن خليل الهندي للقسيس بفندر في مدينة أغرة الهندية حتى اعترف بفندر بوجود التحريف في الإنجيل .
وللإطلاع أكثر يرجى قراءة مؤلفات أحمد ابن تيمية مثل: الرسالة التدمرية و كتاب : مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار / و كذلك كتاب: أصالة علم الكلام لمحمد صالح محمد السيد ,و هذا الأخير على الرابط : www.4shared.com/file/78266675/b495d086/
و شكرا .